الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ولما أمر سبحانه ونهى، وذكر أن السبب في النهي كراهة الضلال وعلم منه أن سبب الضلال الهوى، ذكر سبب هذا السبب فقال معبرًا بالنسيان إشارة إلى أنه من شدة ظهوره كما كان محفوظًا فنسي، وفك المصدر لأنه أصرح لأنه لو عبر بالمصدر لأمكن إضافته إلى المفعول، واختيرت {ما} دون {إن} لأن صورتها صورة الموصول الاسمي، وهو أبلغ مما هو حرف صورة ومعنى: {بما نسبوا يوم الحساب} أي عاملوه معاملة المنسي بعضهم بالإنكار وبعضهم بخبث الأعمال، فإنهم لو ذكروه حقيقة لما تابعوا الهوى المقتضي للضلال على أنه مما لا يجهله من له أدنى مسكة من عقل فإنه لا يخطر في عقل عاقل أصلًا أن أقل الناس وأجهلهم يرسل أحدًا إلى مزرعة له يعملها، ثم لا يحاسبه عليها فكيف إذا كان حكيمًا فكيف إذا كان ملكًا فكيف وهو ملك الملوك، وقال الغزالي في آخر كتاب العلم من الإحياء في الكلام على العقل: ثم لما كان الإيمان مركوزًا في النفوس بالفطرة انقسم الناس إلى من أعرض فنسي، وهم الكفار، وإلى من جال فكره فتذكر، وكان كمن حمل شهادة فنسيها بغفلة ثم تذكرها، ولذلك قال تعالى: {لعلهم يتذكرون} {وليتذكر أولوا الألباب} {واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به} [المائدة: 7] {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} [القمر: 17] وتسمية هذا النمط تذكرًا ليس ببعيد، وكأن التذكر ضربان: أحدهما أن يذكر صورة كانت حاضرة الوجود في قلبه، لكن غابت بعد الوجود، والآخر أن يكون عن صورة كانت متضمنة فيه الفطرة، وهذه حقائق ظاهرة لناظر بنور البصيرة ثقيلة على من يستروح إلى السماع والتقليد دون الكشف والعيان- انتهى.وقد علم من هذه القصة وما قبلها أن المعنى: اصبر على ما يقولون الآن، فلننصرك فيما يأتي من الزمان، ولنؤيدنك كما أيدنا داود العظيم الشأن.ولما كان التقدير: فما قضيناه في الأزل بيوم الحساب وتوعدنا به سدى، عطف عليه قوله صارفًا الكلام عن الغيبة إلى مظهر العظمة إشارة إلى أن العظيم تأبى له عظمته غير الجد العظيم: {وما خلقنا} أي على ما لنا من العظمة، ويجوز أن تكون الجملة حالية.ولما كان السياق لما وقع من الشقاق عنادًا لا جهلًا، ذكر من السماوات ما لا يمكن النزاع فيه مع أن اللفظ للجنس فيشمل الكل فقال: {السماء} أي التي ترونها {والأرض وما بينهما} مما تحسونه من الرياح وغيرها خلقا {باطلًا} أي لغير غاية أردناها بذلك من حساب من فيهما كما يحاسب أقل من فيكم إجزاء، ومجازاة من فيهما بالثواب لمن أطاع والعقاب لمن عصى كما يفعل أقل ملوككم فإن أدنى الناس عقلًا لا يبني بناء ضخمًا إلا لغاية أرادها، وتلك الغاية هي الفصل بين الناس الذين أعطيناهم القوى والقدر في هذه الدار، وبثثنا بينهم الأسباب الموجبة لانتشار الصفاء فيهم والأكدار، وأعطيناهم العقول تنبيهًا على ما يراد، وأرسلنا فيهم الرسل، وأنزلنا إليهم الكتب، بالتعريف بما يرضينا ويسخطنا، فنابذوا كل ذلك فلو تركناهم بلا جمع لهم ولا إنصاف بينها لكان هذا الخلق كله باطلًا لا حكمة فيه أصلًا، لأن خلقه للضر أو النفع أو لا لواحد منهما، والأول باطل لأنه غير لائق بالرحيم الكريم، والثالث باطل لأنه كان في حال العدم كذلك، فلم يبق للإيجاد مرجح، فتعين الوسط وهو النفع، وهو لا يكون بالدنيا لأن ضرها أكثر من نفعها، وتحمل ضر كثير لنفع غير لائق بالحكيم الكريم، فتعين ما وقع الوعد الصادق به من نفع الآخرة المطابق لما ذكر من عقل العقلاء وسير النبلاء.ولما كان هذا- وهو منابذة الحكمة- عظيمًا جدًّا، عظمه بقوله: {ذلك} أي الأمر البعيد عن الصواب {ظن الذين كفروا} أي من أوقع هذا الظن في وقت ما، فقد أوجد الكفر لأنه جحد الحكمة التي هي البعث لإظهار صفات الكمال والمجازاة بالثواب والعقاب، ومن جحد الحكمة فقد سفه الخالق، فكان إقراره بأنه خالق كلا إقرار فكان كافرًا به، ثم سبب عن هذا الظن قوله: {فويل} أي هلاك عظيم بسبب هذا الظن، وأظهر في موضع الإضمار تعميمًا وتعليقًا للحكم بالوصف فقال: {للذين كفروا} أي مطلقًا بهذا الظن وبغيره {من} أي مبتدأ من {النار} أي الحكم عليهم بها.ولما كان التقدير: أفنحن نخلق ذلك باطلًا؟ فلا يكون له مآل يظهر فيه حكمته ونحن منزهون عن العبث، عطف عليه قوله إنكارًا لما يلزم من ترك البعث من التسوية بين ما حقه المفاوتة فيه، وذلك أشد من العبث وإن كان له أن يفعل ذلك لأنه لا يقبح منه شيء: {أم نجعل} أي على عظمتنا {الذين آمنوا} أي امتثالًا لأوامرنا {وعملوا} أي تصديقًا لدعواهم الإيمان {الصالحات} من الأعمال كالذين أفسدوا وعملوا السيئات أم نجعل المصلحين في الأرض {كالمفسدين} أي المطبوعين على الفساد الراسخين فيه {في الأرض} أي بالكفر وغيره، والتسوية بينهم لا يشك عاقل في أنها سفه {أم نجعل} على ما لنا من العز والمنعة الذين اتقوا كالذين فجروا أم نصيّر {المتقين} أي الراسخين من المؤمنين في التقوى الموجبة للتوقف عن كل ما لم يدل عليه دليل {كالفجار} أي الخارجين من غير توقف عن دائرة التقوى من هؤلاء الذين كفروا أو من غيرهم في أن كلًا من المذكورين يعيش على ما أدى إليه الحال في الدنيا، وفي الأغلب يكون عيش الطالح أرفع من عيش الصالح، ثم يموت ولا يكون شيء بعد ذلك، ولا شك أن المساواة بين المصلح والمفسد والمتقي والمارق لا يراها حكيم ولا غيره من سائر أنواع العقلاء فهو لا يفعلها سبحانه وإن كان له أن يفعل ذلك، فإنه لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء، وقد علم أن الآية من الاحتباك، وأنه مشير إلى احتباك آخر، فإنه ذكر {الذين أمنوا} أولًا دليلًا على {الذين أفسدوا} ثانيًا، وذكر {المفسدين} ثانيًا دليلًا {على المؤمنين} أولًا، وأفهم ذلك ذكر {الذين اتقوا} وأضدادهم وسر ما ذكر وما حذف أنه ذكر أدنى أسنان الإيمان تنبيهًا على شرفه وأنه سبب السعادة وإن كان على أدنى الوجوه وذكر أعلى أحوال الفساد، إشارة إلى أنه يغفر ما دون ذلك لمن يشاء وذكر أعلى أحوال التقوى إيماء إلى أنه لا يوصف بها ويستحق جزاءها إلا الراسخ فيها ترغيبًا للمؤمن في أن يترقى إلى أوجها.ولما ثبت بما ذكر من أول السورة إلى هنا ما ذكر في هذا الذكر من البراهين التي لا يأباها إلا مدخول الفكر مخالط العقل، ثبت أنه ذو الذكر والشرف الأعظم فقال تعالى منبهًا على ذلك تنبيهًا على أنه القانون الذي يعرف به الصلاح ليتبع والفساد ليجتنب مخبرًا على مبتدأ تقديره هو: {كتاب} أي له من العظمة ما لا يحاط به، ووصفه بقوله: {أنزلناه} أي بما من العظمة {إليك} وذلك من عظمته لأنك اعظم الخلق، ثم أخبر عن مبتدأ آخر مبين لما قبله على طريق الاستئناف فقال: {مبارك} أي دائم الخير كثير النفع ثابت كل ما فيه ثباتًا لا يزول أبدًا ولا ينسخه كتاب ولا شيء.ولما ذكر ما له من العظمة إشارة وعبارة، ذكر غاية إنزاله المأمور بها فقال: {ليدبروا} بالفوقانية وتخفيف الدال بالخطاب في قراءة أبي جعفر مشرفًا للأمة بضمهم بالخطاب إلى حضرته الشماء- صلى الله عليه وسلم، ولافتًا للقول في قراءة الجماعة بالغيب وتشديد الدال إلى من يحتاج إلى التنبيه على العلل، لما له من الشواغل الموقعة في الخلل، وأما هو صلى الله عليه وسلم ففي غاية الإتعام للنظر، والتدبر بأجلى الفكر، من حين الإنزال، لعلمه بعلة الإنزال بحيث إنه من شدة إتعابه لنفسه الشريفة بالتخفيف وضمن له تعالى جمعه وقرآنه {آياته} أي لينظروا في عواقب كل آية وما تؤدي إليه وتوصل إليه من المعاني الباطنة التي أشعر بها طول التأمل في الظاهر، فمن رضي بالاقتصار على حفظ حروفه كان كمن له لقحة درور لا يحلبها، ومهرة نتوج لا يستولدها، وكان جديرًا بأن يضيع حدوده فيخسر خسرانًا مبينًا.ولما كان كل أحد مأمورًا بأن ينتبه بكل ما يرى ويسمع على ما وراءه ولم يكن في وسع كل أحد الوصول إلى النهاية في ذلك، قنع منهم بما دونها فأدغمت تاء التفعل في فاء الكلمة إشارة إلى ذلك كما تشير إليه قراءة أبي جعفر، وربما كانت قراءة الجماعة إشارة إلى الاجتهاد في فهم خفاياه- والله أعلم.ولما كان السياق للذكر، وأسند إلى خلاصة الخلق، وكان استحضار ما كان عند الإنسان وغفل عنه لا يشق لظهوره، أظهر التاء حثًا على بذل الجهد في إعمال الفكر والمداومة على ذلك فإنه يفضي بعد المقدمات الظنية إلى أمور يقينية قطعية إما محسوسة أولها شاهد في الحس فقال: {وليتذكر} أي بعد التدبر تذكرًا عظيمًا جليًا- بما أشار إليه الإظهار {أولوا الألباب} أي كل ما أرشد إليه مما عرفه الله لهم في أنفسهم وفي الآفاق فإنهم يجدون ذلك معلومًا لهم بحس أو غيره في أنفسهم أو غيرها، لا يخرج شيء مما في القرآن عن النظر إلى شيء معلوم للإنسان لا نزاع له فيه أصلًا، ولكن الله تعالى يبديه لمن يشاء ويخفيه عمن يشاء {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم} [فصلت: 53] وأظهره يوم القيامة فإنه مركوز في طبع كل أحد أن الرئيس لا يدع من تحت يده بغير حساب أصلًا. اهـ.
|